تعد رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة من أروع
الرحلات في القرن الرابع الهجري نظرا لما تضمنته من أسماء البلاد والمواقع.
وقد كان أبو الطيب حريصا في شعره على أن يسجل الكثير مما رآه في هذه
الرحلة، فقرن الأسماء بخياله الشعري، ووصل إلى درجة رائعة في القصيدة التي
وضعها حينما دخل الكوفة والتي جاء فيها:
فلما أنخنا ركزنا الرماح ... فوق مكارمنا والعلى
وبتنا نقبل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم أني الفتى
وهي أبيات قرأت ترجمتها بالفرنسية شعرا فوجدتها لم تفقد من قوة المتنبي شيئا، بل ظهرت شاعريته بلسان الفرنسيين.
ولقد خرج أبو الطيب ليلة عيد النحر بعد أن تظاهر بالاستعداد
للتضحية وكان قد اختار لنفسه أن يعلن عن عزمه بقصيدة مدح لزعيم من زعماء
قيس النازلة في تلك الأيام بجوار بلبيس، وبالاطلاع على ديوانه نقرأ هذه
القصيدة ونعلم شيئين:
الأول: كيف انتشرت قيس في إقليم الحوف الشرقي وكيف كانت لها السيادة في إقليم الشرقية.
والمتتبع لتاريخ عروبة مصر يجد أن قبائل لخم وجذام وعاملة
وذبيان لها منازل في الأراضي المصرية. ويرى كيف جاء بنو جزى وهم بطن من
جزام، وبنو راشدة وهم بطن من لخم، وكيف انحدروا إلى أماكن عرفت بهم بين
العريش ومصر، وكيف نزل من نزل منهم بالجزائر من أرض الحوف وهي الرمال
البيضاء التي لم تكن تغمرها مياه الفيضان، وكيف هبط قوم منهم بالمناطق بين
صان الحجر والزنكلوم وهي التي يطلق عليها اليوم (الزنكلون) فهذه المناطق
أصلية في عروبتها، ثابتة في أرومتها؛ فإذا ذكر أبو الطيب قيس عيلان في
بلبيس فهو يقصد بمديحه أن يلفت أنظار كافور إلى أن طريقه سيكون إلى الشمال
مارا بمنازل عرب الحوف، فيأخذ كافور عليه الطرق والمسالك، ويقيم عليه الحرس
ينقلون من أخباره.
ولكن أبا الطيب كان قد اختار طريقا آخر؛ فبدلا من أن يرحل إلى
الدلتا نجد أنه قد أخفى السلاح وروايا الماء في الرمال، وركب أسرع الهجن
البيجاوية، وهبط من الفسطاط جنوبا إلى خليج السويس ثم اتجه من هناك إلى
الجنوب مبتعدا عن طريق الحاج، فوجد أمامه واديا يسميه المعاصرون (وادي سدر)
واسمه الصحيح (وادي الصدر) فإذا قطعه اتخذ سبيله إلى قلعة (نخل) القائمة
للآن في شبه جزيرة سيناء، قطع هذا على ظهور الهجن في مرحلة واحدة لا تتعدى
يومين.
فبينما كافور يستعد للاحتفال بعيد الأضحى، إذا به يفاجأ بهرب
المتنبي، فيقيم الدنيا ويقعدها ويسأل الدلاة وقاصي الأثر، فلا جواب لديهم.
عن الهجن البيجاوية
عن الهجن البيجاوية
وكان كافور يحكم مصر ويحكم الجزء الجنوبي من بلاد الشام
ويسيطر على طرق المواصلات في سيناء، وله الحراس في كل مكان والعيون تنقل
إليه أخبار الناس، فكيف فرّ أبو الطيب من قبضته؟ إن هذه الرحلة جديرة
بالبحث وقد حاولت منذ سنتين أن أعرف مكان (نجع الطير) وهو نصف المرحلة
الأولى من رحلته. ورجعت إلى كافة المراجع التي بين أيدينا فلم أوفق، وتتبعت
هجرة بني إسرائيل من مصر لعلي أجد فيها ما يقنعني بتحقيق بعض الأسماء
الواردة بين مصر وبلدة نخل في وسط سيناء، ومع صبري وتحملي الطويل لم يسعفني
كل ذلك لنتيجة حاسمة ترضي رغبتي.
ويصف أبو الطيب هذه الفترة من حياته بقوله عن الهجن البيجاوية:
ضربت بها التيه ضرب القمار ... إما لهذا وإما لذا
فمرت بنخل وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى
ولهذه القصيدة - كما قلت - رنين موسيقي واعتداد بالنفس وسرور بالتغلب على مصاعب الأرض ومتاعب الطبيعة لا يمكن أن ينسى
أرددها ثم أنظر توارد الخواطر بين أبي الطيب ويوليوس قيصر في الشطر الأول: فهو يشبه أقدامه في قطع الفيافي في هذه السرعة في قوله:
ضربت بها التيه ضرب القمار: والتيه هو أرض سيناء، والقمار هو
مجازفة أمام الحياة الحرة وأمام الوقوع بين براثن كافور ومعناه الموت وضياع
الأماني.
ويذكرني هذا المعنى بما أورده يوليوس قيصر في كتابه عن حروب
روما في بلاد الغاليين، حينما اشتبك في قتال معهم إذ قال إنه ألقى بآماله
بين يدي الأقدار كما يلقي المقامر بالزهر بين يديه، فذهب قوله في اللاتينية
مذهب الأمثال. فهل أطلع أبو الطيب على هذا؟ أو نقل إليه حديث قيصر؟ أو هو
مجرد توارد خواطر
ومن المدهش أن قيام إسرائيل بين مصر والبلاد العربية قد أثار طائفة من المشاكل: أولها - كيف الوصول إلى فلسطين وأراضي الشام والحجاز؟
ولقد رأينا طول الحروب الصليبية بعض هذه المشاكل، وبعد
المتنبي بقرنين من الزمن وثلاث وثلاثين سنة رأى صلاح الدين نفسه في الوقت
الذي وقفه المتنبي.. كيف يصل إلى أرض الشام والصليبيون يقطعون الطريق
ويحولون دون وصوله؟ لقد كان أبو الطيب يخشى كافورا وعيونه وحراسه، وكان
صلاح الدين يخشى الإفرنج ومعاقلهم وحصونهم.
والغريب أن صلاح الدين اختار أربعمائة من أشجع فرسان الأسدية
من التركمان والأكراد وخيم في شمال القاهرة في بركة الحاج حيث تقوم الآن
بلدة المرج.. واتجه إلى بلبيس، كما كتب أبو الطيب إلى زعيم بلبيس، فلفت
الأنظار إلى حركته في الشمال، ثم في ليلة واحدة قطع المرحلة من بلبيس إلى
عجرود ونزل جنوبا بعيدا عن طريق الحاج واخترق وادي الصدر الذي أشرت إليه
وعرف كيف يسلك (إلى نخل) ولم يكن صلاح الدين فارا فرار المتنبي.. ولذلك
تنبه للمواقع فأنشأ على الرابية التي تطل على وادي سدر (الصدر) قلعة لا
تزال آثارها قائمة إلى اليوم، وربط الطرق والمسالك بسلسلة من المعاقل اتقاء
هجمات الإفرنج وتسللهم إلى هذه المناطق الحساسة من البلاد العربية.
ألا ترى أن رحلة أبى الطيب لم تكن من الأمور التي تسير على
غير هدى، بل كانت موضع درس وعناية، فلا تندهش إذن حينما تقرأ في خزانة
الأدب للبغدادي صفحة 145 جزء ثان عن المتنبي لما كان في ضيافة عضد الدولة
(وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأمورا بالاختلاف إلى المتنبي وحفظ
المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه فقال: كنت حاضره وكان ابنه
يلتمس أجرة الغسال فأخذ المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصعلوك
والغسال؟ يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء: يطبخ قدرة وينعل
فرسه ويغسل ثيابه، ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة)
ويحدثنا الديوان بأن أبا جعفر أخذ شهرا من الزمن يحادث
المتنبي في الطرق والمسالك ليأخذ عنه كيف خرج من الفسطاط وكيف وصل الكوفة
في ربيع الأول سنة 531
البادية ومقت الطغيان
البادية ومقت الطغيان
وبينما أقلب كتاباً عن المتنبي بالفرنسية علمت أن مستشرقاً
ألمانياً كرس جزءاً من حياته لدراسة رحلة المتنبي، وأنا الذي اقتطعت القليل
من وقتي لكي أتعرف على بعض هذه الرحلة أجد غيري سبقني إليها فلم أقنط
وقلت: قبل اطلاعي على ما كتب فلأخرجها كما تشاء نفسي:
وأمست تخيرنا بالنقاب ... وادي المياه ووادي القرى
وكنت إذا يممت أرضا بعيدة ... سريت فكنت السر والليل كاتمه
شعوران قد تملكا قلب أبي الطيب في رحلته، وأعترف بأني أشاركه
فيهما: شغفه بالبادية والتغني بمحاسنها ولياليها، ومقته للظلم والطغيان،
فهو لا يذكر أيامه بمصر إلا مقرونة بالألم والحسرة، ولا يمر بعقبة أو يخرج
من أمر مدلهم، إلا عد ذلك نصرا على كافور وظلمه وطغيانه، ولا يترك مناسبة
دون التغني بالبادية.
إنك لا تشعر بشعور أبي الطيب إلا إذا عشت بالبادية، ورأيت
سماء الصحراء المقمرة أو لياليها التي تسطع فيها النجوم. إنني أذكر ليلة
مقمرة في وسط الصحراء كدت أقرأ فيها على ضوء القمر صفحة من كتاب. ولقد تركت
هذه الرحلة برغم مصاعبها أكبر الأثر في نفس أبي الطيب، حتى أنه بعد مضي
أكثر من سنتين تقرأ له في قصيدة وضعها سنة 352 هـ أبياتا تشعرنا بحنينه
الذي ملأ قلبه وقت السفر إذا قال يذكر مسيره من مصر ويرثي أبا شجاع فاتكا:
ختام نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه على ساق ولا قدم
ولا يحس بأجفان نحس بها ... فقد الرقاد غريب بات لن ينم
وهو مع ما أوتيه من نصر لتغلبه على الصعاب، يذكر حر الشمس في وسط القيظ، طول أيام السفر في الفيافي فيقول:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم
ثم تجده لا ينسى مدح المطايا التي لولاها لما خرج من مصر بعد ما لقيه من الظلم والعنت فيها:
لا أبغض العيش لكني وقيت بها ... قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
فكأنه يسير في تفكيره ليستعيد ما مر به من ألمه وأحزانه وهو الذي سبق له أن قال وهو بالفسطاط:
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخ قليل عائدي سقم فؤادي ... كثير حاسدي صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السكر من غير المدام
فلا غرابة إذن أن مطلع جبال حسمي قد غمر قلبه، وأن رؤيته لتلك
الشعاب قد نفخت فيه روحا جديدة، بعد ما لقي من نصب ومتاعب في رحلته؛
وبعدما تحمل في مصر من ألم نفساني ومرض أضنى جسمه.
لتعلم مصر ومن بالعراق
لتعلم مصر ومن بالعراق
إن مناظر الجزيرة وجبال حسنى قد ملأت نفسه حبورا وجعلت منه
إنسانا آخر. . نرى ذلك في شعره ونحس معه أحاسيس الذي خرج من سجن وانطلق
للفضاء. . ولا ننس أن بين حسمي ووادي القرى ليلتان، وبين الأخير والمدينة
ست ليال.
ولا يمر هذا الشعور دون أن يعتريه انفعال آخر هو إحساسه
بالنصر والغلبة على كافور كيده، وأنه رفض أن يقبل الذل على يديه، فها هو قد
ترك دنيا الظلم والظلام، وذلك الوسط الذي قال عنه (كأن الحر بينهم يتيم)
وقال فيه عن كافور (غراب حوله رخم وبوم) وهناك انطلق شاعريته في الكوفة
فقال في مواجهة الأحداث وليشهد الدنيا على انتصاره.
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت ... وأني عتي على من عتا
وما كل من قال قولا وفى ... وما كل من سيم خسفا أبى
وهو شعر يبلغ فيه النهاية ويترنم به من كان مثلي قد عانى
الشدة وألم الاضطهاد ووقف أمام الظلم. رحم الله أبا الطيب وطيب ثراه! إني
أعد هذه القصيدة قطعة موسيقية من أروع ما أنشد هذا الشاعر العظيم. ولقد كنت
ضحية للظلم يوما، وتنكر لي أقرب الناس إلي، وشعرت بشعور أبي الطيب، وأقمت
مدة وأنا أترنم بهذه الأبيات، فأشعر بنفسي وقد قويت، وأستمد منها شجاعة
وصبرا.. وهكذا يحيا شعر أبي الطيب في نفوس من يفقه أمر المتنبي ومن عاش
عيشته ومن انكوى بنوع من الظلم يشبه ما أصاب شاعر العرب العظيم.
وأقسم بالله إني لأتحين الفرص لرؤية حسمي العالية الأطراف
والتي قيل إن لا مثيل لها في الدنيا، هذه الجبال الممتدة على خليج العقبة
الملساء الجوانب، والتي إذا أراد الناظر أن يمتع نفسه بالنظر إليها وإلى
قنة منها، رفع بأبصاره إلى السماء.
إنها أوحت لأبي الطيب بالكثير من شعره عن نفسه، وأعذب الشعر
ما تحدث به الشاعر عن أحاسيسه، والمتنبي إعصار هائل من أين أتيت إليه، فهو
عظيم في حجمه وجبروته، ولكن هذا الإعصار وسط الأدب العربي، بلغ القمة وجاوز
حدود العظمة حينما سجل بشعره آلامه وأحزانه وفرحه وغبطته ويوم انتصاره.
وطابت حسمي لأبي الطيب فنزلها وأقام بها شهراً. أليست مواطن
الأفذاذ من قبائل العرب، التي لم تعرف الخنوع ولا الخضوع، والتي على رغم
قربها لملك كافور لم تسمح لنفسها أن تقبل ظلمه وجبروته وطغيانه.
جاء في كتاب الهمداني أن أرم وحسمي والبياض هي مساكن من تشاءم
من للعرب الأقحاح، وقد سكنت لخم المنازل بين الرملة ومصر (الجفار) وطرق
جبال الشراة، أما جذام فكانت تسكن ما بين مدين وتبوك وامتدت أذرح أو أذرع،
واحتلت عاملة جبلها المعروف باسمها، من بحيرة طبرية إلى البحر.
وبقيت جبال حسمى بين فزازة وجذام. ولما نزلها أبو الطيب
وارتاحت نفسه إليها، لم تتركه دسائس كافور، وهو الذي عمل حسابا له، فتحاشى
أقرب الطرق إلى حسمى خوفا من كمين قد يرصده له في طريق نزوله من رأس النقب
إلى عقبة إيليا، واضطر أن يسلك طريق الشام أولا ثم ينكفئ من تربان إلى
غرندل ثم جنوبا إلى منازل جبال حسمى.
سرقة سيف المتنبي
سرقة سيف المتنبي
أقول إن صاحب مصر أبى إلا أن ينغص عيش أبي الطيب وأن يتتبعه
إلى الأطراف البعيدة، فكتب إلى رؤساء العرب ووعدهم وواعدهم، وبعد مضي شهر
ظهر لأبي الطيب فسادنية عبيده وجاءت الحادثة مع وردان بين ربيعة من قبيلة
طيء، وهو الذي سمع بأن لأبي الطيب سيفا مذهبا، فأخذ يلح في أن يريه إياه،
وأبو الطيب يحاول التخلص منه، لأنه سيف يعتز به ويحرص عليه، فجعل الطائي
يحتال على العبيد الذين في خدمة أبي الطيب ويحرضهم عليه طمعا في الحصول على
السيف.
وهنا اكتشف أبو الطيب أن أبا المسك صاحب مصر قد كاتب العرب
الذين حوله، ولم يبق هناك مفر من الرحيل، فأرسل من يثق به إلى بني فزاره
وبني مازن، وإلى شيخ من ولد هرم بن قطية. ولما أتاه الخبر بقبوله النزول
لديه شد ليلا على الإبل وجنب الخيل، وسار تحت كنف الليل على طريقته لما
غادر الفسطاط والقوم لا يعلمون برحيله، وكان يقصد تضليلهم إذا حاولوا القبض
عليه، كما ضلل من قبل جماعة كافور. ويظهر من تصرفاته أنه كان على علم
وإلمام بطرق البادية، مسالك البلاد وأسرارها، بدليل أنه اتخذ السير في طريق
البياض وسار فيه ليلا حتى رأس الصوان، وهذا الدرب خطير يحتاج فيه الراحل
إلى الخفارة لتعذر الأمان فيه، وهو الطريق الذي يسلكه من يرحل من تيماء
ووجهته الكوفة، فيمر يسرة فيما يلي البياض ثم يخترق ديار ذبيان، فمنازل كلب
في صحراء السماوة ثم الدهناء، فإذا مر منها واجهه نخل الفرات. وما وصل أبو
الطيب إلى رأس الصوان حتى انكفأ عائداً إلى الشمال مرة أخرى، محترسا من أن
يقع على كمين إذا سار في الطريق الأول.
وفي صفحة 495 من الديوان (وسار أبو الطيب حتى نظر آثار الخيل
ولم يجد مع فليتة خبرا من العرب التي طلبها، فقال له اخرق أو أحرف بنا على
بركة الله إلى دومة الجندل؛ وذلك لأنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمى قد
علمت أنه يريد البياض، فصار حتى انحدار إلى الكفاف فورد البويرة بعد ثلاث
ليال.
ذكر ياقوت أن البويرة موضع بين وادي القرى وبين بسيطة الواقعة في طريق الكوفة
ومن ذلك يتضح أن أبا الطيب أقر في نفسه طريق السفر فجعل: أولا وجهته دومة الجندل
ثانيا تحاشى العودة إلى جبال حسمى.
فكأن انحداره للبياض كان تمويها لأنه اتخذ كعادته طريقا آخر هو طريق الكفاف ثم البويرة.
والخرائط لا تسعف هنا لأن المناطق الواقعة في أراضي المملكة
السعودية لم تمسح بعد المساحة التفصيلية، فأبدأ بالكلام على هذه المواقع
جاعلا أول الكلام على دومة الجندل ثم بقية الأماكن إلى الكوفة.
إذا فتحت الخرائط وجدت منطقة الجوف تتوسط الصحراء، وهي التي
قال عنها صاحب جزيرة العرب كانت تسمى قديما دومة الجندل والجوف هي البلدة
الرئيسية تقع وسط منطقة زراعية كبيرة على رأس وادي السرحان والواحة واقعة
في منخفض نحو 500 قدم تحت سطح الصحراء المحيطة بها.
أرض التحكيم
أرض التحكيم
وفي هذا المنخفض واحات صغيرة مثل سكاكة وقارة والطوير وجاوة، وسكاكة هي أكبرها وتكثر فيها مزارع النخيل.
ولأهمية موقعها طلب مندوب المملكة الأردنية في مؤتمر الكويت
أن تكون حدود نجد كما كانت عام 1919 أي طلب إخلاء الجوف وسكاكة ووداي
السرحان من قوات المملكة السعودية فطلب مندوب نجد استفتاء أهالي الجوف ففشل
المؤتمر.
وقد برز اسم دومة الجندل في تاريخ الإمام علي كرم الله وجهه
ومعاوية، فقد ذكر المسعودي (وفي سنة 38 كان التقاء الحكمين بدومة الجندل،
وقيل بغيرها على ما قدمناه وصف التنازع في ذلك) وذكر اسم كتاب له في تفاصيل
النزاع ضاع ضمن ما ضاع من مؤلفاته.
ويقول الأستاذ الخضري في تاريخ الأمم الإسلامية:
(فتوافوا (أي الحكمين ومن معهما) بدومة الجندل بأذرح فيكون قد
أقر بأن الاجتماع في دومة الجندل التي هي بأرض الشراة. وقد نقل هذا عن ابن
خلدون الذي قال: وبعث معاوية عمرو بين العاص في أربعمائة من أهل الشام
والتقوا بأذرح من دومة الجندل) صفحة 441
(وكتب الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة 37 واتفقوا على أن يوافي على موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرع في شهر رمضان) 440
وجاء ذكر دومة الجندل في صفحة 216 (خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح بني قريظة،
وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل فسلك على طريق الشام أولا ثم أخذ ذات اليسار
إلى صخيرات اليمام).
ولذلك اختلف الناس في تحقيق موضع اجتماع الحكمين هل هو في
دومة الجندل بالصحراء أم في دومة الجندل بأراضي المملكة الأردنية؟ أي في
بلدة أذرح الواقعة في نطاق دومة الجندل التي كان يطلق عليها الصخرية.
إنني أميل إلى الرأي الأخير وإن كنت أدعو أحد المهتمين بتحقيق الدراسات الإسلامية أن يضع بحثا عنها.
وقد جاء في كتاب تاريخ الإسلام السياسي ما يأتي (اجتمع عمرو
بن العاص وأبو موسى الأشعري بدومة الجندل وهي بضم الدال وفتحه وتبعد عن
دمشق بست مراحل وتقع على الطريق بين دمشق إلى المدينة).
وكان عقد التحكيم مدته من رمضان إلى رمضان وكتب في يوم
الأربعاء 13 صفر سنة 37 وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجند المواثيق
واتفقا على تأجيل القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على أن
يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، فإن لم يجتمعا لذلك
اجتمعا في بلدة أذرح المبينة على الخريطة شمال غرندل وتربان.
وبعث علي للميعاد بأربعمائة رجل ولم يحضر علي، وبعث معاوية بأربعمائة رجل ثم جاء معاوية واجتمعوا في أذرح والتقى الحكمان.
كل هذا يقتضي بأن الاختيار وقع أولا على دومة الجندل التي
الجوف لتوسطها بين الطرفين ولكي يحضر المتخاصمان أمام الحكمين؛ ولكن معاوية
الحريص على ملكه وحياته اختار الشق الثاني وجعل بلدة أذرع المكان المختار
وقد يكون احتج بأنها قائمة بأرض دومة الجندل لأن هذه المنطقة كانت تسمى
بأرض أدوم أو دومة من القدم... فقد جاء في قاموس الكتاب المقدس ص 451 أن
دومة التي بها أذرح محرفة عن أدوم، وأنها البلاد التي يسكنها نسل دومة هو
أدوم بن إسماعيل أو سادس أولاده (نك 25: 14) وأنهم سكنوا في صحراء سورا على
بعد 150 أو 200 ميل من دمشق حيث توجد قطعة أرض تعرف باسم دومة الحجرية أو
دومة السورية.
وفي كتاب الإمامة والسياسة ج 1 صفحة 136 ما يشير إلى كتاب بين
علي ومعاوية اتفقا فيه على أن يرجع أهل العراق إلى العراق وأهل الشام إلى
الشام ويكون الاجتماع إلى دومة الجندل (وأظن أنهما يقصدان دومة الجندل
بالجوف) فإن رضيا أن يجتمعا بغيرها فلهما ذلك... ثم ذكر في صفحة 138 أن أبا
موسى وعمر لما اجتمعا بدومة الجندل كان عقد التحكيم هدنة من رمضان إلى
رمضان.
الأدميون وتيماء
الأدميون وتيماء
وإذا رجعنا إلى اسم أدوم وجدنا أن معناه في قاموس الكتاب
المقدس أحمر، وهو لقب عيسو بن أسحق أخذ بلون العدس يوم باع بكوريته إلى
أخيه يعقوب وأخذ الأرض الواقعة جنوبي (حبرون) مدينة الخليل إلى جنوب البحر
الميت ثم تخوم أرض موآب ثم اتسعت البقعة فشملت الأراضي الواقعة بين برية
(سين) وغربيها إلى بلاد العرب الواقعة شرقيها أي شملت منطقة أذرح وما
حولها. التي اشتهرت بجودة هوائها، وخصب أراضيها ومناعة حصونها. أما تسميتها
بأدوم فأخذا من عيسو الملقب بأدوم (نك 43: 36) والمظنون أن نسله استوطن
هناك فأصبح هذا القسم من جنوبي البحر الميت يشمل كل تخوم كنعان الجنوبية من
البحر الميت إلى الخليج الشرقي للبحر الأحمر ومن ضمنها جبل سعير وكانت
سالع عاصمة القسم الجنوبي وفيها استوطن تيمان بن عيسو (نك 11: 36) فتسمى
الجزء الجنوبي تيماء باسمه وكان للأدوميين ملوك يحكمون باسمهم.
ولما جاء حكم الروم أنشؤوا في تخوم العقبة باباً كبيرا ووضعوا
عليه شحنة لجبي الضرائب على القوافل القادمة من الجنوب. . . وفي الاصطخرى
وابن حوقل تمتد جبال أدوم من الشراة إلى أيلة أي العقبة كما جاء في كتاب
فلسطين تحت حكم المسلمين لمؤلفه جوى لوسترانج أن أدوم في مادة الشراة.
أما تحقيق أدوم أو دومة الجندل لدى العرب فقد جاء في صفحة 106 جزء 4 من معجم ياقوت كما يأتي: بضم أوله أو فتحه.
ابن دريد: أنكر الفتح وعده من أغلاط المحدثين
حديث الواقدي: جاء فيه دوما الجندل
ابن الفقيه: عدها من أعمال المدينة: وقال سميت بدون بن إسماعيل بن إبراهيم
الزجاجي: دومان بن إسماعيل وقيل دوما
ابن الكلبي: دوماء بن إسماعيل، ولما كثر ولد إسماعيل بتهامة
خرج دوماء حتى نزل دومة وبنى به حصنا فقيل ودماء ونسب الحصن إليه وهي على
سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. . . وقال
أبو سعيد: دومة الجندل في غائط في الأرض خمسة فراسخ وفيها عين يسقى ما به
من النخل والزرع وحصنها مارد، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل)
ولا يبعد أو وصفه ينطبق على دومة الجندل بالجوف والحصن على ما بناه الأكيد
وهو من فتح خالد بن الوليد. ثم يؤكد أبو عبيد الكوفي أن دومة الجندل قرب
جبلي طي ويقصد بذلك واحة الجوف لأنه ذكر بلدة دومة وسكاكة وذو القارة أما
دومة ففيها سور يتحصن به وفي داخل السور حصن منيع يقال له مارد وهو حصن
أكيدر.
ونعود إلى أرض أدوم أو دومة الجندل الصخرية فنقول إن هذه
البقعة كانت عامرة في العصور السابقة وفي عهد الروم أنشئت بها كما قلنا
أسقفية في (غرندل) تحريف (أرندل) التي بقيت على الطريق الروماني من العقبة
إلى بصرى، وكان يمر بأرض الشوبك وعليه حصن الكرك المشهور في الحروب
الصليبية، وكان عامرة في عهودها الإسلامية بدليل سكنى الخلائف من قرش وبني
هاشم، وأن الدعوة العباسية قامت من بلدة الحميمة حين مات بها إبراهيم
الإمام.
وبعد هذا التحقيق والبحث كنت أقلب الجزء الأول من العقد الفريد تحقيق العلامة الدكتور أحمد أمين فوقع نظري في الصفحة 264 سطر 13
(وأوصل أبو دلامة إلى العباس بن المنصور رقعة فيها هذه الأبيات
قف بالديار وأي الدهر لم تقف ... على مناظر بين الظهر والنجف
فإذا الحاشية (4) تقول
(النجف بالتحريك موضع بظهر الكوفة، وهو دومة الجندل بعينها،
وبالقرب منها قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) ولا شك في أن واضع
الحاشية كغيره من الأدباء أغفل تحقيق الأماكن الجغرافية لعدم أهميتها،
والحقيقة أن بالكوفة مكانا يدعى (دومة) والنجف محلة منها ويقال إنها سميت
بذلك لأن عمر بن الخطاب لما أجلى الأكيدر صاحب دومة الجندل المشهورة في
الجوف قدم الحيرة ثم بنى بها منزلا سماه دومة على اسم حصنه الذي نزع منه
(راجع كتاب تاريخ الكوفة تأليف المؤرخ السيد حسين بن السيد أحمد البراقي
طبع النجف صفحة 148 سطر 2
ولا يصح أن يفهم القارئ خطأ بأن موضع دومة الجندل التي مر
ذكرها واختلاف الرواة بشأن الحكمين كان موضعا بالقرب من النجف حيث يرقد
الإمام علي رضي الله عنه، وبين النجف ودومة الجندل بالجوف مئات الأميال
وبين أرض أدوم وبالشراة مئات أخرى.
*المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي المصري
*عن مجلة "الرسالة"، العدد 985، 12/ 11/ 1951
*عن مجلة "الرسالة"، العدد 985، 12/ 11/ 1951
المصدر /
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق