الأربعاء، 14 فبراير 2018

عرض موجز لما تناوله ابن قتيبة في "الشعر و الشعراء"

 عن المؤلف :
قال عنه ابن نديم في الفهرست : ” ابن قتيبة : أبو محمد ، عبد الله بن مسلم بن قتيبةsh3randsh3ra 001الكوفي ، مولده بها ، و إنما سُمي الدينوري لأنه قاضي الدينور ، و كان ابن قتيبة يغلو في البصريين ، إلا أنه خلط المذهبين ، و حكى مذهبه عن الكوفيين ، و كان صادقًا فيما يرويه ، عالمًا باللغة ، و النحو ، و غريب القرآن و معانيه ، و الشعر ، و الفقه ، كثير التصنيف و التأليف ، و كتبه بالجبل مرغوب فيها ، و مولده في مستهل رجب ، و توفي سنة سبعين و مائتين ” المكتبة التجارية ، ط 1348هـ ، ص 115 – 116.
و قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب ” تفسير سورة الإخلاص ” : ” .. ، و هذا القول اختيار كثير من أهل السنة ، منهم ابن قتيبة ، و أبو سليمان الدمشقي ، و غيرهما . و ابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد و إسحق ، و المنتصرين لمذاهب السنة المشهورة ، و له في ذلك مصنفات متعددة …، و كان أهل المغرب يعظمونه و يقولون : من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالذندقة ، و يقولون : كل بيت ليس فيه من تصنيفه لا خير فيه . قلت : و يقال : هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة ، فإنه خطيب السنة ، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة ” ص 120 – 121.
و رجح ابن كثير و ابن خلكان أن تكون وفاته سنة 276هـ.
عن المحقق :
أحمد محمد شاكر [ 1309 – 1377هـ ] المحدث الفقيه الأديب الناقد المحقق الشهير ، قال في مقدمة تحقيقه : ” و اعتمدت في تحقيق الكتاب على طبعة ليدن سنة 1902 ، … و مطبوعة ليدن التي اعتمدناها حققها المستشرق ” دي غويه ” ، و كتب لها مقدمة جيدة ، و أثبت في هوامشها اختلاف النسخ المخطوطة التي وقعت له و اعتمد عليها في طبعته ، … ، و و المستشرق دي غوية كما يبدو لي من عمله في الكتاب من أواسط المستشرقين ، و ليس من عليائهم … ، فإنه حقق الكتاب تحقيقًا لا بأس به ، و لكنه أخطأ في مواضع ليست بالقليلة ، نبهت إلى كثير منها في مواضعها ، و أعرضت عن بعضها … و قد وضع دي غويه للكتاب فهرسين للأعلام و الأماكن فقط ، لم يخلو من خطأ و قصور … فرأيت أن أتدارك ذلك كله ، فأحقق الكتاب تحقيقًا أقرب للصواب ، بتخير أصح النسخ التي أشار إليها المستشرق … و لم أثبت كل الاختلاف بين النسخ المخطوطة التي كانت بين يديّ دي غويه إذ لم تكن بين يدي ، و لم يكن من الميسور في هذه الظروف التي تنشر فيها الكتاب أن نحصل عليها ” ص 40 – 41.
و قد انتقده المحقق السيد صقر على ذلك ، كما انتقده على حذف الاختلافات بين النسخ التي أثبتها دي غوية في تحقيقه ، بالإضافة إلى انتقاده أخطاء في الشكل و الضبط ، و أخطاء تصحيفيه ، و ذكر أمثلة على ذلك في مقالين أدرجهما أحمد شاكر في الكتاب و علق عليهما ، فأما عدم الرجوع إلى جميع المخطوطات فلأنه يرى أن ذلك لا يلزم ، و لأنه لم يرجع إليها فلا يمكن أن يثبت الاختلافات بينها كما فعل دي غوية ، و أما أخطاء الشكل و الضبط و التصحيف فيرى أحمد شاكر أن كلام السيد صقر فيها دون دليل مرحج أو مقنع أو مصدر معتمد ، بالإضافة إلى اختلاف اختلاف روايات الأشعار.
يقول المحقق أحمد شاكر : ” و قد وفق الله أخانا الأستاذ محمد أفندي الحلبي صاحب دار إحياء الكتب بمصر لاختيار نشر هذا الكتاب فعهد إلي أن أحققه و أشرحه ” ص 39 . [ النسخة التي بين يدي من نشر دار الحديث دون تاريخ نشر أو طباعة ]
عن الكتاب :
الكتاب مكون من جزءين في مجلدين ، و هو من مصادر الأدب الأولى التي وصلتنا ، و يضم مقدمة نقدية ، و تراجم لمجموعة من الشعراء المشهورين الذين يحتج بشعرهم ، و سوف أتحدث عن أهم القضايا النقدية الوارد في المقدمة ، و عن منهج ابن قتيبة في الترجمة للشعراء على النحو التالي :
أولاً / أهم القضايا النقدية في مقدمة كتاب الشعر و الشعراء :
1 – قضية القديم و الحديث :
يقول ابن قتيبة في مقدمته بعد حديثه عن معياره النقدي في اختيار الشعراء الذين سوف يترجم لهم : ”   فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ، و يجعله في متخيره ، و يردل الشعر الرصين ، و لا عيب عنده إلا أنه قيل في زمانه ، أو أنه رأى قائله ” ص 64.
كانت هذه النظرة شائعة في عصر ابن سلام و ابن قتيبة ، إلا أن ابن قتيبة – و هو عالم شرعي و قاضي دينور – حاول التوسط و نصب نفسه حكمًا بين المتقدمين و المتأخرين ، و يرد على من يتعصب للقديم بحجة عقلية منطقية فيقول : ” و لم يقصر الله العلم و الشعر و البلاغة على زمن دون زمن ، و لا خصَّ به قومًا دون قوم ، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر ، و جعل كل قديم حديثًا في عصره ، و كل شرف خارجية في أوله ، فقد كان جرير و الفرزدق و الأخطل و أمثالهم يعدون محدثين . و كان أبو عمرو بن العلاء يقول : لقد كثر هذا المحدث و حسن حتى لقد هممت بروايته. ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد منهم ، و كذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخزيمي و العتَّابي و الحسن بن هانئ و أشباههم ” ص 64.
و هذه النظرة الضيقة المتحيزة التي انتقدها ابن قتيبة في ذلك الزمن المتقدم ما تزال موجودة حتى اليوم للأسف ، و كأن ابن قتيبة حينما قال كلامه الآنف و ضرب الأمثلة في آخره لا يرد على أهل زمانه ممن ينظرون كذلك فقط ، و إنما يرد على من يرى رأيهم و ينظر نظرتهم في الأزمنة اللاحقة .
2 – قضية اللفظ و المعنى : 
يقول ابن قتيبة في مقدمته : ” تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب : ضرب منه حسن لفظه و جاد معناه … ، و ضرب منه حسن لفظه و حلا ، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى … ، و ضرب منه جاد معناه و قصرت ألفاظه عنه … ، و ضرب منه تأخر معناه و تأخر لفظه ” ص 69.
و هو إذ يقسم الشعر إلى أربعة أضرب يذكر الأمثلة و الشواهد على تقسيمه هذا الذي يتضح من خلاله اهتمام ابن قتيبة بقضية ” اللفظ و المعنى ” التي تحدث عنها الجاحظ قبل ابن قتيبة ، و تحدث عنها آخرون بعد ابن قتيبة ، و ما تزال حتى اليوم تشغل النقاد و إن تغيرت أسمائها فقالوا : ” الشكل و المضمون ” أو ” الإطار و المحتوى ” أو ” الرؤية و الفن ” .
و يبدو من كلام ابن قتيبة حول هذه القضية أنه يفضل المعنى على اللفظ و إن ساوى بينهما ظاهريًا ، و أنه لا يقصد باللفظ الكلمة الواحدة ، و إنما يقصد الصياغة و الأسلوب و السبك .
و هناك من يرى أن معيار ابن قتيبة في المفاضلة بين المعاني هو القيمة الأخلاقية و ليس البراعة في التصوير ، و لكن ذلك غير صحيح بدليل أن ابن قتيبة في ترجمته لأبي نواس تحدث عن براعته في وصف الخمر و كؤوسها .
و قد تحدث ابن قتيبة عند التمثيل على الضرب الأخير ” تأخر لفظه و معناه ” عن قضية ” الطبع و التكلف و الصنعة ” و هي قضية أخرى نشير إليها مستقلة .
3 – قضية الموهبة الشعرية :
يقول ابن قتيبة في مقدمته بعد أن ذكر أبياتًا للخليل بن أحمد : ” و هذا الشعر بيِّن التكلف ردئ الصنعة . و كذلك أشعار العلماء ، ليس فيها شيء جاء عن إسماح و سهولة ، كشعر الأصمعي ، و شعر ابن المقفع ، و شعر الخليل ، خلا خلف الأحمر ، فإنه كان أجودهم طبعًا و أكثرهم شعرًا ” ص 71.
و يقول في موضع آخر : ” و من الشعراء المتكلف و المطبوع : فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف ، و نقحه بطول التفتيش ، و أعاد النظر فيه بعد النظر ، كزهير و الحطيئة . و كان الأصمعي يقول : زهير و الحطيئة و أشباههما من الشعراء عبيد الشعر ؛ لأنهم نقحوه و لم يذهبوا مذهب المطبوعين . و كان الحطيئة يقول : خير الشعر الحولي المنقح المحكك . و كان زهير يسمي كُبر قصائده الحوليات ” ص 78.
و في موضع آخر : ” و المطبوع من الشعراء من سمح بالشعر و اقتدر على القوافي ، و أراك في صدر بيته عجزه ، و في فاتحته قافيته ، و تبينت على شعره رونق الطبع و وشي الغريزة ، و إذا امتحن لم يتلعثم ، و لم يتزحر ” ص 91.
و هي قضية تناولها النقاد القدماء قبل و بعد ابن قتيبة و إن اختلفت تسمياتهم ، فالأصمعي يتحدث عن ” المطبوعين ” و عن ” عبيد الشعر ” و ابن سلام يتحدث عن ” القريحة ” و بشر بن المعتمر عن ” عرق الصناعة ” و الجاحظ عن ” الطبع ” و ” الغزيزة ” و القاضي الجرجاني عن ” الطبع ” و ابن سنان الخفاجي عن ” الطبع ” أو ” الآلة ” و ابن خلدون عن ” الملكة ” ، و كل هذه الأسماء تشير على نحو ما إلى الموهبة اللازمة للإبداع الفني ، و الاستعداد الفطري له.
و عند تصفحنا لترجمات الشعراء في كتاب ابن قتيبة نراه حرصًا على الحديث عن موهبة الشاعر و تحديد نوعيتها .
و إذا كان ابن سلام قد تنبه إلى تميز شعراء في أغراض معينة فخص أصحاب المراثي بطبقة ، فقد جاء ابن قتيبة ليوضح ذلك أكثر و يبسط القول فيه ، حيث يقول : ” و الشعراء أيضًا في الطبع مختلفون : منهم من يسهل عليه المديح و يعسر عليه الهجاء . و منهم من يتيسر له المراثي و يتعذر عليه الغزل ” ص 94.
4 – قضية التقليد و الاحتذاء :
يقول ابن قتيبة في مقدمته بعدما تحدث عن بنية القصيدة الجاهلية : ” فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب ، و عدل بين هذه الأقسام ، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر ، و لم يطل فيمل السامعين ، و لم يقطع و بالنفوس ظمآء إلى المزيد … و ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام فيقف على منزل عامرٍ ، أو يبكي عند مشيد البنيان ، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر ، و الرسم العافي . أو يرحل على حمار أو بغل و يصفهما ، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي . أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس و الآس و الورد ، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيخ و الحنوة و العرارة ” ص 76-77.
يبدو ابن قتيبة في كلامه هذا بصورة مخالفة للصورة التي تبادرت للذهن عند معرفة رأيه فيمن يتعصب للشعر القديم ، حيث يعلن أنه من أنصار المحافظة على التقاليد الأدبية في الشعر الجاهلي ، و في المقابل نراه حريصًا أشد الحرص في ترجمته للشعراء على تتبع المعاني الدقيقة الحديثة التي يبتكرونها و يسبقون إليها. 
كما نراه في جانب اللغة قريبًا من التجديد حيث يدافع عن لغة أبي نواس فيقول : ” و قد كان يُلَحَّن في أشياء من شعره ، لا أراه فيها إلا على حجةٍ من الشعر المتقدم ، و على بينة من علل النحو ” ص 808.
5 – قضية إثارة الإبداع :
يقول ابن قتيبة في مقدمته بعدما تحدث عن الطبع و التكلف و الصنعة : ” و للشعر دواعٍ تحث البطئ ، و تبعث المكتلف ، منها الطمع ، و منها الشوق ، و منها الشراب ، و منها الغضب … و للشعر تارات يبعد فيها قريبة ، و يستصعب فيها ريضه … و للشعر أوقات يسرع فيها أتيه ، و يسمح فيها أبيه ” ص 79-81.
و قد جاء حديث ابن قتيبه عن بواعث الشعر و دواعيه بعد الحديث عن الطبع و التكلف و الصنعة و امتزج به ، و السبب واضح ؛ فالحديث عن الموهبة يجر إلى الحديث عما يثير هذه الموهبة و يحفزها على الإبداع .
و أول من تنبه إلى ما يثير و يحفز الإبداع لدى شعراء معينين هو من قال ” امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب ، و عنترة إذا كلب ، و جرير إذا غضب ” [ حكاه الأصمعي عن أبي طرفة ، و رواه ابن سلام عن يونس بن حبيب ، و ينسب لكثير أو نصيب ].
و لكن ابن سلام لم يهتم بالقول السابق اهتمامًا يدفعه إلى البحث عن دواعي الشعر في نفوس شعراء آخرين ، إنما بحث عن دواعي الشعر في البيئات المختلفة فتنبه إلى أن الحروب و التارات تؤثر في في الشعر كثرة و قلة حتى جاء ابن قتيبة فعاد و دقق النظر في بواعث الشعر و دواعيه في نفوس الشعراء عامة ، فجعل بعضها داخليًا نابعًا من الشعراء أنفسهم ، و جعل بعضها خارجيًا نابعًا من الزمان و المكان جاريًا في أنفس الشعراء. 
6 – قضية خلود الشعر :
يقول ابن قتيبة في مقدمته بعدما تحدث عن اللفظ و المعنى : ” و ليس كل الشعر يُختار و يحفظ على جودة اللفظ و المعنى ، و لكنه قد يختار و يحفظ على أسباب : كمها الإصابة في التشبيه، …. و قد يحفظ و يختار على خفة الروي ، …. و قد يختار و يحفظ لأن قائله لم يقل غيره ، أو لأن شعره قليل عزيز ، … و قد يختار و يحفظ لأنه غريب في معناه ، … و قد يختار و يحفظ أيضا لنبل قائله ” ص 85 – 87.
لعل ابن قتيبة بعدما تحدث عن اللفظ و المعنى قد سأل نفسه : هل جميع الأشعار التي تختار للحفظ و الرواية جيدة في اللفظ و المعنى ؟ و لأنه أدراك أن الإجابة بالنفي بدأ في البحث عن ما يميز هذه الأشعار و يجعلها باقية أو مشهورة أو خالدة ، و قد اهتدى إلى عدة أسباب سردها و مثل عليها .
7 – قضية الضرورات الشعرية :
يقول ابن قتيبة في مقدمته بعدما تحدث عن عيوب القافية و الإعراب في الشعر : ” و قد يضطر الشاعر فيُسكِّن ما كان ينبغي له أن يحركه ، … و قد يضطر الشاعر فيقصر الممدود ، و ليس له أن يمد المقصور . و قد يضطر فيصرف غير المصروف ، و قبيح إلا يصرف المصروف ، … و أما ترك المهموز فكثير فكثير واسع ، لا عيب فيه على الشاعر . و الذي لا يجوز أن يهمز غير المهموز ” ص 99 – 102.
للخليل ابن أحمد الفراهيد كلام جميل فيما هو متاح للشعراء من تصريف الكلام على هواهم في الشعر ، إلا أن تلميذه سيبويه لم يسر على نهج أستاذه ، فهو و إن أقر بالضرورة الشعرية إلا أنها حاول أن يجد للشعراء مسوغًا فيما يظن أنه ضرورة شعرية غير الضرورة الشعرية ، و يبدو بأن هذه النظرة قد تطورت عند اللغويون فجاء ابن قتيبة و اختصر مجال الحرية المتاح للشاعر إلى النصف ممّا منحه الخليل للشعراء .
8 – قضية أولية الشعر :
يقول ابن قتيبة في آخر مقدمته : ” لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حاجته … ” ص 105.
و ذكر أبياتًا لشاعرين هما : دويد بن نهد القضاعي ، و أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان ، و الحقيقة أن الحاجظ هو أول من أثار قضية أولية الشعر العربي ، أو قضية نشأة الشعر العربي ، و حاول تحديد مدة زمنية لها تتمثل في مئة و خمسين أو مئتي عام قبل الإسلام .
ثم جاء ابن سلام بعده و قال إن الشعر في بدايته كان بضع أبيات يقولها الرجل في حاجته ، و لم تقصد القصائد إلا في عهد عبد المطلب و هاشم بن عبد مناف ، و أول من قصّد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة في قتل أخيه كليب وائل .
أما ابن قتيبة فلم يأت بجديد في كلامه عن هذه القضية على ما قاله ابن سلام ، بل إنه تجنب تحديد فترة زمنية ، و اكتفى بتسميه شاعرين و ذكر أبياتٍ لهما دون أن يشير إلى تاريخ، أو حادثة أو يحيل إلى فترة زمنية بعينها.
ثانيًا / منهج ابن قتيبة في الترجمة للشعراء :
1 – معيار الاختيار :
يقول ابن قتيبة في مقدمته : ” هذا كتاب ألفته في الشعراء ، أخبرت فيه عن الشعراء و أزمانهم ، و أقدارهم ، و أحوالهم في أشعارهم ، و قبائلهم ، و أسماء آبائهم ، و من كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم . و عما يستحسن من أخبار الرجل و يستجاد من شعره ، و ما أخذته العلماء عليهم من الغلط و الخطاء في ألفاظهم أو معانيهم ، و ما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون . و أخبرت فيه عن أقسام الشعر و طبقاته ، و عن الوجوه التي يختار الشعر عليها و يستحسن لها ” ص 61.
ثم يبين قصده فيقول : ” و كان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب ، و الذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب ، و في النحو ، و في كتاب الله عز و جل ، و حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم . فأما من خفي اسمه ، و قل ذكره ، و كسد شعره ، و كان لا يعرفه إلا بعض الخواص ، فما أقل من ذكرت من هذه الطبقة ” ص 61.
و من ذلك نعرف أن مقياس ابن قتيبة في اختيار للشعراء الذين ترجم لهم هي الشهرة و كون الشاعر ممن يحتج بشعره ، و سبب عدم الترجمة لغير المشهورين أن أخبارهم و أشعارهم لا يعرفهم إلا قليل من الناس.
و الحقيقة أن ابن قتيبة لم يصنف الشعراء إلى طبقات كما فعل ابن سلام من قبله و إن كان ذلك حاضرًا في عقله الباطن ، و لكنه اعتمد الترتيب التاريخي في ترجمته للشعراء إلى حد ما ، و استعرضهم دون موازنة بينهم أو مفاضلة بين السابق و اللاحق كما فعل ابن سلام. 
2 – معيار النقد :
يقول ابن قتيبة في مقدمته : ” و لم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من قلد ، أو استحسن باستحسان غيره ، و لا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه ، و إلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره ، بل نظرت بعين العدل على الفريقين ، و أعطيت كلاً حظه ، و وفرت عليه حقه ” ص 64.
فهو يعتمد جودة الشعر مقياسًا و ميزانًا في المفاضلة بين الشعراء الذين ترجم لهم بعيدًا عن العامل الزمني ، ثم ينتقد من يجعل العامل الزمني مقياسًا للمفاضلة بين الشعراء ، وقد سبقت الإشارة إلى رأي ابن قتيبة في المتعصبين للشعر القديم النافرين من الشعر الحديث .
3 – مدى تطبيق المعايير :
بلغ مجموع الشعراء الذين ترجم لهم ابن قتيبة ستة و مئتين شاعرًا بين جاهلي ومخضرم وإسلامي، ومن عاصره من العباسيين ، فبدأ بامرىء القيس و ختم بالأشجع السلمي ، و من خلال تصفحي لبعض ترجمات الشعراء أرى أن ابن قتيبة قد حاول تطبيق معاييره التي ذكرها في مقدمته إلى حد كبير ، فاهتم بذكر اسم الشاعر و نسبه و قبيلته ، و ذكر شيء من أخباره ، و ذكر ما يستجاد من شعره ، و ما سبق إليه و ابتكره من معانٍ ، و ما عيب من شعره ، كما كان حريصًا على الحكم على مواهبهم الشعرية من حيث الطبع و التكلف و الصنعة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق