في هذة المقالات التي تنشرها «البيان» على مدى أيام رمضان المبارك، يقدم مستشرقون، ذوو مكانة علمية، شهاداتهم في فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوروبية الحديثة، في انتشارها من الأندلس غرباً إلى تخوم الصين شرقاً، حيث أسهمت بكنوزها في الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء في قدوم عصر النهضة، وما صحبه من إحياء للعلوم.
ينتسب هؤلاء المستشرقون إلى مدارس مختلفة، شرقاً وغرباً، عالجوا الحضارة العربية والإسلامية في أبهى تجلياتها من إعجاز القرآن الكريم إلى الآداب، ومن ثم إلى العلوم، ورؤوا في الإسلام ديناً متسامحاً وميداناً غزيراً للإبداع منذ عرف الغرب أكبر حركة ترجمة في التاريخ على امتداد قرنين، نقل فيها معظم التراث العربي وأمهات الكتب إلى لغاته، ما أتاح للثقافة العربية أن تدخل حضارة الغرب لتضيء الحياة الفكرية والعلمية.
بهرته اللغة العربية بجمالياتها فكرس حياته لدراستها... شغف المستشرقون الفرنسيون بالشرق، وخاصة بالأدب العربي وكان لهم الفضل الكبير في إظهار كنوزه والاهتمام بدراسته ونشر روائعه، مترجماً إلى اللغة الفرنسية، ولكن الشرق بالنسبة للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير كان المغرب الذي عاش فيه منذ طفولته، وهو ابن الخامسة عشرة إلى أن التحق بفرنسا سنة 1935، وهو ابن الخامسة والثلاثين. كان والده قد انتقل ـ وكان موظفاً صغيراً - مع أسرته إلى المغرب سنة 1915 بعد احتلاله من قبل فرنسا.
كان بلاشير آنذاك يرافقه، فقد وجد في المغرب بلده الثاني، وتفتح ذهنه على حضارته العربية وثقافته الإسلامية، فتشرب بهما حتى النخاع، بل أصبح أحد أساتذتها الأكفاء بدون منازع. فأنهى هناك دراسته الثانوية في مدرسة «ليوتي» في مدينة الدار البيضاء، وعمل في وظيفة مترجم، غير أن أساتذته وجدوا فيه استعداداً قوياً للبحث وتعلم اللغات الأجنبية، فوجهوه إلى تعّلم اللغة العربية ليصبح مستعرباً يعّلم العربية. كان ضليعا في اللغة والآداب العربية من جهة وفي الدراسات القرآنية والإسلامية من جهة أخرى. وقد تخرجت على يديه كوكبة من الباحثين المسلمين والأجانب أبرزهم: اندريه ميكل ومحمد اركون. فقد أتقن اللغة العربية وافتتن بجمالياتها، عالماً ومثقفاً وأديباً. وقام بتأسيس جمعية تطوير الدراسات الإسلامية، ومركز استقبال الطلبة العرب في فرنسا. وقد أدى هذا التفاعل إلى إنتاج عشرات الكتب والمقالات والتراجم التي خلّدت الثقافة العربية الإسلامية في الغرب.
المتنبي.. شغف بشعره
يعتبر بلاشير أول من عرّف بالشاعر العربي أبو الطيب المتنبي في الثقافة العالمية، ومن شدة ولعه به، قدم أطروحته للدكتوراه عنه بعنوان «ديوان المتنبي في العالم العربي وعند المستشرقين»، 1935.
وهو من أصعب الشعراء العرب على الترجمة بفضل عبقريته اللغوية المعترف بها. ولم يكتف بترجمة أشعار المتنبي بل قام بترجمة نماذج من روائع كبار الشعراء العرب القدماء. وكان بلاشير يؤمن بأن الترجمة لا تتطلب فقط الإتقان التام للغتين، بل الموهبة والحدس لأن الترجمة في نظره إبداع مواز للنص المترجم عنه.
ووضع «قواعد لنشر وترجمة النصوص العربية» التي تفترض شروطاً إبداعية خاصة للتعامل مع النصوص الشعرية منها والنثرية وتأويليها. وهو في هذا المضمار، له عدته، فهو أستاذ اللغة العربية التي أتقن أصولها في المنابع. وبذل مجهوداً كبيراً في تعليم اللغة العربية للفرنسيين، ساعياً لنشر هذه اللغة على أوسع نطاق، لذلك فوضع كتاب «نحو اللغة العربية الفصحى».
بالإضافة إلى معجم عربي فرنسي إنكليزي بالتعاون مع الأستاذين مصطفى شويمي وكلود دينيزو. ولم يتوقف عن البحث في الأدب العربي، قديمه وحديثه، لينقله إلى لغة موليير، فقد ترجم نماذج من فحول شعراء العربية كامرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والخنساء، والمعري، وبشار ابن برد.. والهمذاني.
ولم يتوقف جهده عند الأدب العربي الذي كتب تاريخه في ثلاثة مجلدات، بل اتجه إلى الاهتمام بعلم الجغرافيا، والمعاجم، والموسوعات، وأدب الأمثال، وعلم العروض وغيرها.
ولكي يضع إطاراً لكل مشاريعه اللغوية، خاض مشروعه في تأليف قاموس ثلاثي: عربي، فرنسي، انجليزي ضخم، ولكن لم يصدر منه سوى ثلاثة أجزاء في حياته. واهتمامه بالأدب والفكر لم يبعده عن العلوم الأخرى مثل الجغرافيا، إذ يقول «إننا لا نستطيع أن نزور الصين الآن دون أن نرجع لرحلة ابن بطوطة». وهو اعتراف رجل علامة بما أنجزه العرب في مجال الرحلة.
معاني القرآن الكريم
قام بلاشير بترجمة معاني القرآن الكريم في عام 1949، واضعاً السور وفق نزولها، سيرا على نهج بعض المترجمين البريطانيين، وذلك بقصد تفسير التشريع على ضوء الوقائع التاريخية. ثم تخلى عن ذلك في الطبعات التالية بعدما اقتنع بعدم جدوى مخالفة ترتيب المصحف العثماني.
ويذكر دائما في مقدمة السورة مصدر اسمها وآراء المفسرين المسلمين وغير المسلمين في مكيتها أو مدنيتها جزئيا أو كليا.
لكنه كان يرجِّح آراء غير المسلمين في أغلب الأحيان. وقد اعتمد في ترجمته على أربعة تفاسير وهي: الطبري، والبيضاوي، والنسفي، والرازي من اجل توسيع إمكانيات تأويل النص.
وتمكنت ترجمته أن تشق طريقها بين الترجمات العديدة في أوروبا وذلك بفضل اطلاعه على قواعد اللغة العربية وآدابها وتذوقه الخاص بها كلغة كان يقول عنها بأنها «لغة المجد».
وجاءت أغلب الأصوات التي انتقدته بأنه رجل علماني أكثر من اللزوم، لكنه ليس من نوع المترجمين التقليديين، بل يريد فرض رأيه بالنص الذي يتعامل معه: «..في جميع المجالات التي أطللنا عليها من علم قواعد اللغة والمعجمية وعلم البيان، أثارت الواقعة القرآنية وغذت نشاطات علمية هي أقرب إلى حالة حضارية منها إلى المتطلبات التي فرضها إخراج الشريعة الإسلامية.
وهناك مجالات أخرى تدخل فيها الواقعة القرآنية كعامل أساسي.. ولا تكون فاعليتها هنا فاعلية عنصر منبه فقط، بل فاعلية عنصر مبدع تتوطد قوته من خلال نوعيته الذاتية» ومن أجل ذلك، قدم نبذة عن تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية، وانتقد الترجمات التي جاءت من جماعة طليطلة بمبادرة «القس بيير المبجل».
أما أول ترجمة فرنسية فقد أعدها أندره دوريير في منتصف القرن السابع عشر. وعن هذه النسخة، ترجمها ألكسندر روس إلى الإنجليزية عام 1649، وجلاوماخر إلى الهولندية عام 1657.
وكذلك ترجمة سافاري الفرنسية التي حظيت برواج كبير في القرنين الماضيين. وقد بلغت ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ستاً وثلاثين ترجمة. وعلى الرغم من ذلك، أصر على أن يقدم ترجمته للقرآن الكريم ومعانيه لأنه قدم ترجمة إبداعية، مرفقة بالشروح والتفسيرات.
صحيح أن بلاشير، واجه صعوبات في الترجمة وشرح معانيه، وصعوبة الاختيار بين الروايات المختلفة والتأويلات المتنوعة، لكنه لا ينفي وجود شرح يستند إلى الإيمان بالعقل حينما تنال هذه التفسيرات التأييد والإجماع. وكان ضليعا في اللغة والآداب العربية من جهة وفي الدراسات القرآنية والإسلامية من جهة أخرى.
إن أهمية المستشرق بلاشير تمتد إلى أجيال متعددة، ولم تنته تأثيراته لحد الآن في الدراسات العربية والإسلامية. فقد تخرجت على يديه نخبة من الباحثين المسلمين والأجانب، بالإضافة إلى أن ترجمته القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، أثار العديد من الأبحاث والدراسات الهامة.
وقد نقل نظرية المستشرقين الألمان إلى اللغة الفرنسية، بكل تجاربها وخبراتها. والمعروف إن الاستشراق الألماني حقق إنجازات كبيرة في ما يخص الدراسات القرآنية.
يقدم بلاشير الوجه المشرق لقراءة مبدعة للأدب العربي القديم، تختلف عن القراءات الميتة لأنه يقرؤها بعين فاحصة، نقدية، وشفافة. لذلك ظلت أعماله ذات قيمة علمية وريادة متفردة، في تأسيس لبنات مدرسة أدبية متميزة في تناول التراث العربي القديم، ينتمي إليها عدد كبير من الأدباء والعلماء الذين كثيراً ما أبدوا تأثرهم بشخصيته العلمية وثقافته الواسعة.
في سطور
ريجيس بلاشير (19731900) من أشهر مستشرقي فرنسا في القرن العشرين، ومن أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق. ولد في مونروج في ضواحي باريس.
تعلم العربية في الدار البيضاء بالمغرب.
هاجر مع عائلته إلى المغرب في عام 1918 وتعرف على الإسلام والثقافة العربية هناك. وباشر بإصدار كتبه. أصدر مجلة «هيسبيريس» التي أسسها في عام 1920.
وتخرج في كلية الآداب في الجزائر 1922 وعين أستاذاً في معهد الدراسات المغربية العليا في الرباط (1924 1935) وانتقل إلى باريس محاضرا في السوربون عام 1938، فمديراً لمدرسة الدراسات العليا عام 1942، وأشرف على مجلة «المعرفة» الباريسية الصادرة باللغتين العربية والفرنسية. ونجح في فرض تدريس اللغة العربية في بعض المدارس والمعاهد الثانوية الفرنسية آنذاك.
وفي باريس ناقش أطروحته عن الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي.
وقد حاز كرسي الأستاذية في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس (1935- 1950).
كما شغل عدة مناصب علمية أهمها عمله كمدير للمدرسة التطبيقية للدراسات العليا (1950- 1968) كما عمل مديراً بمعهد الدراسات الإسلامية في أكاديمية باريس.
اضاءة
تتلخص جهود بلاشير في ترجمته للقرآن الكريم، والشعر والنثر العربيين. يُضاف إلى ذلك أسلوبه في تأويل معاني القرآن، والقواعد التي وضعها هو أصلاً لهذه الترجمة. وتسترعي تجربته الانتباه بأنه ترجم روائع الشعر العربي القديم، ومنها لشاعر المتنبي. أما عمله على النص، فيتركز في ثلاثة ميادين: النص القرآني، والنص الشعري، والنص النثري. وقارن بين كبار المترجمين.
من آرائه
« لا جرم إن كان ثمة شيء تعجز الترجمة عن أدائه، فإنما هو الإعجاز البياني واللفظي والإيقاعي في الآيات القرآنية الكريمة..»
قالوا عنه
«ليس بلاشير مجرد باحث، ولكنه رجل واسع الثقافة، وله عين ناقدة، وذهن متوقد، ورؤية صائبة، جمع بين مفكري الشرق والغرب على حد سواء، إلا أن فكره النقدي ارتبط بفلاسفة من عيار: مونتينيي وفولتير ورينان وستاندال، ولم يقتصر اهتمامه على الأدب، بل اهتم كذلك بالموسيقى، إذ كان يعزف بآلة كمانه: باخ وماهلر وبيتهوفن، وفي بعض الأحيان كان يؤلف الموسيقى». شارل اندريه جوليان
«بلاشير مدرسة أدبية متميزة في دراسة التراث العربي القديم وترجمته. هذه المدرسة ذات إشعاع عالمي، يمثلها جيل من الأدباء اللامعين العرب وغير العرب في دراسة الأدب العربي وترجمته سواء من طلبته أو من طلبة طلبته الذين تأثروا بشخصيته العلمية القيمة في مواضيع البحث ومنهجيته وعشقهم الفريد للغة العربية وولعهم بالتراث الإسلامي». وقد امتدت هذه المدرسة إلى كل أقطار العالم العربي وغير العربي.حورية الخمليشي
مؤلفاتها
ــ اناليكتا 1975
ــ القرآن الكريم 2002
ــ في خطى الرسول محمد (ص) 1956
ــ قاموس عربي فرنسي انجليزي 1960
ــ قاموس عربي فرنسي انجليزي 1967
ــ عناصر اللغة العربية 1958
ــ ممارسات اللغة العربية الفصحى 1970
ــ مقاطع من الجغرافيا العربية في القرون الوسطى
ــ قواعد اللغة العربية الفصحى
ــ تاريخ الأدب العربي من الأصول إلى نهاية القرن الخامس عشر 3 أجزاء
ــ مقدمة إلى القرآن الكريم
ــ القرآن ترجمة 1949 ـ 1977
ــ أبو الطيب المتنبي، نقله إلى العربية د. أحمد أحمد بدوي
ــ معجم عربي فرنسي إنجليزي
http://www.albayan.ae/our-homes/2010-08-24-1.276837
ينتسب هؤلاء المستشرقون إلى مدارس مختلفة، شرقاً وغرباً، عالجوا الحضارة العربية والإسلامية في أبهى تجلياتها من إعجاز القرآن الكريم إلى الآداب، ومن ثم إلى العلوم، ورؤوا في الإسلام ديناً متسامحاً وميداناً غزيراً للإبداع منذ عرف الغرب أكبر حركة ترجمة في التاريخ على امتداد قرنين، نقل فيها معظم التراث العربي وأمهات الكتب إلى لغاته، ما أتاح للثقافة العربية أن تدخل حضارة الغرب لتضيء الحياة الفكرية والعلمية.
بهرته اللغة العربية بجمالياتها فكرس حياته لدراستها... شغف المستشرقون الفرنسيون بالشرق، وخاصة بالأدب العربي وكان لهم الفضل الكبير في إظهار كنوزه والاهتمام بدراسته ونشر روائعه، مترجماً إلى اللغة الفرنسية، ولكن الشرق بالنسبة للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير كان المغرب الذي عاش فيه منذ طفولته، وهو ابن الخامسة عشرة إلى أن التحق بفرنسا سنة 1935، وهو ابن الخامسة والثلاثين. كان والده قد انتقل ـ وكان موظفاً صغيراً - مع أسرته إلى المغرب سنة 1915 بعد احتلاله من قبل فرنسا.
كان بلاشير آنذاك يرافقه، فقد وجد في المغرب بلده الثاني، وتفتح ذهنه على حضارته العربية وثقافته الإسلامية، فتشرب بهما حتى النخاع، بل أصبح أحد أساتذتها الأكفاء بدون منازع. فأنهى هناك دراسته الثانوية في مدرسة «ليوتي» في مدينة الدار البيضاء، وعمل في وظيفة مترجم، غير أن أساتذته وجدوا فيه استعداداً قوياً للبحث وتعلم اللغات الأجنبية، فوجهوه إلى تعّلم اللغة العربية ليصبح مستعرباً يعّلم العربية. كان ضليعا في اللغة والآداب العربية من جهة وفي الدراسات القرآنية والإسلامية من جهة أخرى. وقد تخرجت على يديه كوكبة من الباحثين المسلمين والأجانب أبرزهم: اندريه ميكل ومحمد اركون. فقد أتقن اللغة العربية وافتتن بجمالياتها، عالماً ومثقفاً وأديباً. وقام بتأسيس جمعية تطوير الدراسات الإسلامية، ومركز استقبال الطلبة العرب في فرنسا. وقد أدى هذا التفاعل إلى إنتاج عشرات الكتب والمقالات والتراجم التي خلّدت الثقافة العربية الإسلامية في الغرب.
المتنبي.. شغف بشعره
يعتبر بلاشير أول من عرّف بالشاعر العربي أبو الطيب المتنبي في الثقافة العالمية، ومن شدة ولعه به، قدم أطروحته للدكتوراه عنه بعنوان «ديوان المتنبي في العالم العربي وعند المستشرقين»، 1935.
وهو من أصعب الشعراء العرب على الترجمة بفضل عبقريته اللغوية المعترف بها. ولم يكتف بترجمة أشعار المتنبي بل قام بترجمة نماذج من روائع كبار الشعراء العرب القدماء. وكان بلاشير يؤمن بأن الترجمة لا تتطلب فقط الإتقان التام للغتين، بل الموهبة والحدس لأن الترجمة في نظره إبداع مواز للنص المترجم عنه.
ووضع «قواعد لنشر وترجمة النصوص العربية» التي تفترض شروطاً إبداعية خاصة للتعامل مع النصوص الشعرية منها والنثرية وتأويليها. وهو في هذا المضمار، له عدته، فهو أستاذ اللغة العربية التي أتقن أصولها في المنابع. وبذل مجهوداً كبيراً في تعليم اللغة العربية للفرنسيين، ساعياً لنشر هذه اللغة على أوسع نطاق، لذلك فوضع كتاب «نحو اللغة العربية الفصحى».
بالإضافة إلى معجم عربي فرنسي إنكليزي بالتعاون مع الأستاذين مصطفى شويمي وكلود دينيزو. ولم يتوقف عن البحث في الأدب العربي، قديمه وحديثه، لينقله إلى لغة موليير، فقد ترجم نماذج من فحول شعراء العربية كامرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والخنساء، والمعري، وبشار ابن برد.. والهمذاني.
ولم يتوقف جهده عند الأدب العربي الذي كتب تاريخه في ثلاثة مجلدات، بل اتجه إلى الاهتمام بعلم الجغرافيا، والمعاجم، والموسوعات، وأدب الأمثال، وعلم العروض وغيرها.
ولكي يضع إطاراً لكل مشاريعه اللغوية، خاض مشروعه في تأليف قاموس ثلاثي: عربي، فرنسي، انجليزي ضخم، ولكن لم يصدر منه سوى ثلاثة أجزاء في حياته. واهتمامه بالأدب والفكر لم يبعده عن العلوم الأخرى مثل الجغرافيا، إذ يقول «إننا لا نستطيع أن نزور الصين الآن دون أن نرجع لرحلة ابن بطوطة». وهو اعتراف رجل علامة بما أنجزه العرب في مجال الرحلة.
معاني القرآن الكريم
قام بلاشير بترجمة معاني القرآن الكريم في عام 1949، واضعاً السور وفق نزولها، سيرا على نهج بعض المترجمين البريطانيين، وذلك بقصد تفسير التشريع على ضوء الوقائع التاريخية. ثم تخلى عن ذلك في الطبعات التالية بعدما اقتنع بعدم جدوى مخالفة ترتيب المصحف العثماني.
ويذكر دائما في مقدمة السورة مصدر اسمها وآراء المفسرين المسلمين وغير المسلمين في مكيتها أو مدنيتها جزئيا أو كليا.
لكنه كان يرجِّح آراء غير المسلمين في أغلب الأحيان. وقد اعتمد في ترجمته على أربعة تفاسير وهي: الطبري، والبيضاوي، والنسفي، والرازي من اجل توسيع إمكانيات تأويل النص.
وتمكنت ترجمته أن تشق طريقها بين الترجمات العديدة في أوروبا وذلك بفضل اطلاعه على قواعد اللغة العربية وآدابها وتذوقه الخاص بها كلغة كان يقول عنها بأنها «لغة المجد».
وجاءت أغلب الأصوات التي انتقدته بأنه رجل علماني أكثر من اللزوم، لكنه ليس من نوع المترجمين التقليديين، بل يريد فرض رأيه بالنص الذي يتعامل معه: «..في جميع المجالات التي أطللنا عليها من علم قواعد اللغة والمعجمية وعلم البيان، أثارت الواقعة القرآنية وغذت نشاطات علمية هي أقرب إلى حالة حضارية منها إلى المتطلبات التي فرضها إخراج الشريعة الإسلامية.
وهناك مجالات أخرى تدخل فيها الواقعة القرآنية كعامل أساسي.. ولا تكون فاعليتها هنا فاعلية عنصر منبه فقط، بل فاعلية عنصر مبدع تتوطد قوته من خلال نوعيته الذاتية» ومن أجل ذلك، قدم نبذة عن تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية، وانتقد الترجمات التي جاءت من جماعة طليطلة بمبادرة «القس بيير المبجل».
أما أول ترجمة فرنسية فقد أعدها أندره دوريير في منتصف القرن السابع عشر. وعن هذه النسخة، ترجمها ألكسندر روس إلى الإنجليزية عام 1649، وجلاوماخر إلى الهولندية عام 1657.
وكذلك ترجمة سافاري الفرنسية التي حظيت برواج كبير في القرنين الماضيين. وقد بلغت ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ستاً وثلاثين ترجمة. وعلى الرغم من ذلك، أصر على أن يقدم ترجمته للقرآن الكريم ومعانيه لأنه قدم ترجمة إبداعية، مرفقة بالشروح والتفسيرات.
صحيح أن بلاشير، واجه صعوبات في الترجمة وشرح معانيه، وصعوبة الاختيار بين الروايات المختلفة والتأويلات المتنوعة، لكنه لا ينفي وجود شرح يستند إلى الإيمان بالعقل حينما تنال هذه التفسيرات التأييد والإجماع. وكان ضليعا في اللغة والآداب العربية من جهة وفي الدراسات القرآنية والإسلامية من جهة أخرى.
إن أهمية المستشرق بلاشير تمتد إلى أجيال متعددة، ولم تنته تأثيراته لحد الآن في الدراسات العربية والإسلامية. فقد تخرجت على يديه نخبة من الباحثين المسلمين والأجانب، بالإضافة إلى أن ترجمته القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، أثار العديد من الأبحاث والدراسات الهامة.
وقد نقل نظرية المستشرقين الألمان إلى اللغة الفرنسية، بكل تجاربها وخبراتها. والمعروف إن الاستشراق الألماني حقق إنجازات كبيرة في ما يخص الدراسات القرآنية.
يقدم بلاشير الوجه المشرق لقراءة مبدعة للأدب العربي القديم، تختلف عن القراءات الميتة لأنه يقرؤها بعين فاحصة، نقدية، وشفافة. لذلك ظلت أعماله ذات قيمة علمية وريادة متفردة، في تأسيس لبنات مدرسة أدبية متميزة في تناول التراث العربي القديم، ينتمي إليها عدد كبير من الأدباء والعلماء الذين كثيراً ما أبدوا تأثرهم بشخصيته العلمية وثقافته الواسعة.
في سطور
ريجيس بلاشير (19731900) من أشهر مستشرقي فرنسا في القرن العشرين، ومن أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق. ولد في مونروج في ضواحي باريس.
تعلم العربية في الدار البيضاء بالمغرب.
هاجر مع عائلته إلى المغرب في عام 1918 وتعرف على الإسلام والثقافة العربية هناك. وباشر بإصدار كتبه. أصدر مجلة «هيسبيريس» التي أسسها في عام 1920.
وتخرج في كلية الآداب في الجزائر 1922 وعين أستاذاً في معهد الدراسات المغربية العليا في الرباط (1924 1935) وانتقل إلى باريس محاضرا في السوربون عام 1938، فمديراً لمدرسة الدراسات العليا عام 1942، وأشرف على مجلة «المعرفة» الباريسية الصادرة باللغتين العربية والفرنسية. ونجح في فرض تدريس اللغة العربية في بعض المدارس والمعاهد الثانوية الفرنسية آنذاك.
وفي باريس ناقش أطروحته عن الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي.
وقد حاز كرسي الأستاذية في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس (1935- 1950).
كما شغل عدة مناصب علمية أهمها عمله كمدير للمدرسة التطبيقية للدراسات العليا (1950- 1968) كما عمل مديراً بمعهد الدراسات الإسلامية في أكاديمية باريس.
اضاءة
تتلخص جهود بلاشير في ترجمته للقرآن الكريم، والشعر والنثر العربيين. يُضاف إلى ذلك أسلوبه في تأويل معاني القرآن، والقواعد التي وضعها هو أصلاً لهذه الترجمة. وتسترعي تجربته الانتباه بأنه ترجم روائع الشعر العربي القديم، ومنها لشاعر المتنبي. أما عمله على النص، فيتركز في ثلاثة ميادين: النص القرآني، والنص الشعري، والنص النثري. وقارن بين كبار المترجمين.
من آرائه
« لا جرم إن كان ثمة شيء تعجز الترجمة عن أدائه، فإنما هو الإعجاز البياني واللفظي والإيقاعي في الآيات القرآنية الكريمة..»
قالوا عنه
«ليس بلاشير مجرد باحث، ولكنه رجل واسع الثقافة، وله عين ناقدة، وذهن متوقد، ورؤية صائبة، جمع بين مفكري الشرق والغرب على حد سواء، إلا أن فكره النقدي ارتبط بفلاسفة من عيار: مونتينيي وفولتير ورينان وستاندال، ولم يقتصر اهتمامه على الأدب، بل اهتم كذلك بالموسيقى، إذ كان يعزف بآلة كمانه: باخ وماهلر وبيتهوفن، وفي بعض الأحيان كان يؤلف الموسيقى». شارل اندريه جوليان
«بلاشير مدرسة أدبية متميزة في دراسة التراث العربي القديم وترجمته. هذه المدرسة ذات إشعاع عالمي، يمثلها جيل من الأدباء اللامعين العرب وغير العرب في دراسة الأدب العربي وترجمته سواء من طلبته أو من طلبة طلبته الذين تأثروا بشخصيته العلمية القيمة في مواضيع البحث ومنهجيته وعشقهم الفريد للغة العربية وولعهم بالتراث الإسلامي». وقد امتدت هذه المدرسة إلى كل أقطار العالم العربي وغير العربي.حورية الخمليشي
مؤلفاتها
ــ اناليكتا 1975
ــ القرآن الكريم 2002
ــ في خطى الرسول محمد (ص) 1956
ــ قاموس عربي فرنسي انجليزي 1960
ــ قاموس عربي فرنسي انجليزي 1967
ــ عناصر اللغة العربية 1958
ــ ممارسات اللغة العربية الفصحى 1970
ــ مقاطع من الجغرافيا العربية في القرون الوسطى
ــ قواعد اللغة العربية الفصحى
ــ تاريخ الأدب العربي من الأصول إلى نهاية القرن الخامس عشر 3 أجزاء
ــ مقدمة إلى القرآن الكريم
ــ القرآن ترجمة 1949 ـ 1977
ــ أبو الطيب المتنبي، نقله إلى العربية د. أحمد أحمد بدوي
ــ معجم عربي فرنسي إنجليزي
شاكر نوري
المصدر :http://www.albayan.ae/our-homes/2010-08-24-1.276837
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق